فصل: تفسير الآيات (38- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (28- 30):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)}
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} الآية.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: في قوله تعالى: {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} قال: هم والله كفار قريش.
وقال عمرو: هم قريش، ومحمد صلى الله عليه وسلم نعمة الله.
{وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} قال: البوار يوم بدر، قوله: {بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ} أي: غيّروا نعمة الله عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم حيث ابتعثه الله تعالى منهم كفرا كفروا به فأحلُّوا، أي: أنزلوا، قومهم ممن تابعهم على كفرهم دار البوار الهلاك، ثم بيَّن البوار فقال: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} المستقر.
وعن علي كرم الله وجهه: الذين بدلوا نعمة الله كفرًا: هم كفار قريش نحروا يوم بدر.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة، وبنو أمية، أما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} أمثالا وليس لله تعالى ند {لِيُضِلُّوا} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، وكذلك في الحج وسورة لقمان والزمر: {ليَضِلَّ} وقرأ الآخرون بضم الياء على معنى ليضلوا الناس، {عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا} عيشوا في الدنيا، {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}.

.تفسير الآيات (31- 34):

{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)}
{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصلاةَ} قال الفراء: هو جزم على الجزاء، {وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خلالٌ} مخاللة وصداقة. قرأ ابن كثير، وابن عمرو، ويعقوب: {لا بيع فيه ولا خلال} بالنصب فيهما على النفي العام. وقرأ الباقون: {لا بيعٌ ولا خلال} بالرفع والتنوين.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السموات وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ} ذللها لكم، تجرُونها حيث شئتم.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} يجريان فيما يعود إلى مصالح العباد ولا يَفْتُرَان، قال ابن عباس دؤوبُهُما في طاعة الله عز وجل.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يتعاقبان في الضياء والظلمة، والنقصان والزيادة.
{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} يعني: وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئًا، فحذف الشيء الثاني اكتفاءً بدلالة الكلام، على التبعيض.
وقيل: هو على التكثير نحو قولك: فلان يعلم كلَّ شيء، وآتاه كل النَّاس، وأنت تعني بعضهم،
نظيره قوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْء} [الأنعام- 44].
وقرأ الحسن {مِنْ كلٍّ} بالتنوين {مَا} على النفي يعني من كل ما لم تسألوه، يعني: أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها.
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} أي: نعم الله، {لا تُحْصُوهَا} أي: لا تطيقوا عدَّها ولا القيام بُشكرِها.
{إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} أي: ظالم لنفسه بالمعصية، كافرٌ بربّه عز وجل في نعمته.
وقيل: الظلوم، الذي يشكر غير من أنعم عليه، والكافر: من يجحد مُنْعِمَه.

.تفسير الآيات (35- 36):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)}
قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ} يعني: الحرم، {آمِنًا} ذا أمن يؤمن فيه، {وَاجْنُبْنِي} أبعِدْني، {وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ} يقال: جَنَبْتُه الشيء، وأجْنَبْتُه جنبًا، وجَنَّبْتُهُ تَجْنِيْبًا واجتَنَبْتُهُ اجتنابًا بمعنى واحد.
فإن قيل: قد كان إبراهيم عليه السلام معصومًا من عبادة الأصنام، فكيف يستقيم السؤال؟ وقد عبد كثير من بنيه الأصنام فأين الإجابة؟
قيل: الدعاء في حقِّ إبراهيم عليه السلام لزيادة العصمة والتثبيت، وأما دعاؤه لبنيه: فأراد بنيه من صُلْبه، ولم يعبد منهم أحدٌ الصنم.
وقيل: إن دعاءه لمن كان مؤمنًا من بنيه.
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} يعني ضلَّ بهن كثير من الناس عن طريق الهدى حتى عبدوهن، وهذا هو المقلوب، نظيره قوله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} [آل عمران- 175]، أي: يخوفهم بأوليائه.
وقيل: نسب الإضلال إلى الأصنام لأنهن سبب فيه، كما يقول القائل: فتنتني الدنيا، نسب الفتنة إلى الدنيا لأنها سبب الفتنة.
{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} أي: مِنْ أهل ديني، {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال السدي: معناه: ومن عصاني ثم تاب.
وقال مقاتل بن حيان: ومن عصاني فيما دون الشرك.
وقيل: قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنه لا يغفر الشرك.

.تفسير الآية رقم (37):

{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}
قوله عز وجل: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} أدخل {من} للتبعيض، ومجاز الآية: أسكنت من ذريتي ولدًا، {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} وهو مكة؛ لأن مكة وادٍ بين جبلين، {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} سماه محرَّما لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن أيوب السختياني وكثير بن أبي كثير بن المطلب بن أبي وداعة- يزيد أحدهما على الآخر- عن سعيد بن جبير قال قال ابن عباس: أول ما اتَّخذ النساءُ المِنْطَقَ من قِبَلِ أمِّ إسماعيلَ، اتخذت مِنْطَقًا لتُعَفِّي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم عليه السلام، وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحدٌ وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاءً فيه ماء، ثم قَفَلَ إبراهيم منطلقًا، فتبعتْه أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنْس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعّنا ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثَّنِيَّةِ حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه، فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} حتى بلغ {يشكرون}.
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نَفِدَ ما في السِّقاء عطشتْ وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلبَّط أو قال يتلَوَّى، وانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف دِرْعِها، ثم سَعَتْ سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلذلك سَعْيُ الناس بينهما».
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه- تريد نفسها- ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعتَ إن كان عندك غِوَاث، فإذا هي بالمَلَكِ عند موضع زمزم، فبحث بعقبه- أو قال بجناحه- حتى ظهر الماء فجعلت تَخُوضُه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم» أو قال: «لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا مَعِينًا».
قال: فشربتْ وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.
وكان موضع البيت مرتفعًا من الأرض كالرَّابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك، حتى مرَّت بهم رُفْقة من جُرْهُم- أو أهل بيت من جرهم- مقبلين من طريق كَداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا: إنّ هذا الطائر ليدور على ماء، ولَعَهْدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّيْن فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حقَّ لكم في الماء، قالوا: نعم.
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشبَّ الغلام وتعلم العربية منهم، وأَنْفَسَهُم وأعجبهم حين شبَّ، فلما أدرك زوَّجوه امرأةً منهم. وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته... ذكرنا تلك القصة في سورة البقرة.
قوله تعالى: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ} الأفئدة: جمع الفؤاد {تَهْوِي إِلَيْهِمْ} تشتاق وتحنُّ إليهم.
قال السدي: معناه أمِلْ قلوبهم إلى هذا الموضع.
قال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس والروم والترك والهند.
وقال سعيد بن جبير: لحجَّت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: {أفئدة من الناس} وهم المسلمون.
{وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} ما رزقت سكان القرى ذوات الماء، {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.

.تفسير الآيات (38- 39):

{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)}
{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} من أمورنا. وقال ابن عباس ومقاتل: من الوجد بإسماعيل وأمه حيث أسكنتهما بوادٍ غير ذي زرع. {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ ولا فِي السَّمَاءِ} قيل: هذا صلة قول إبراهيم.
وقال الأكثرون: يقول الله عز وجل: {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ ولا فِي السَّمَاءِ}.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ} أعطاني، {إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} قال ابن عباس: وُلد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة، ووُلد إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.
وقال سعيد بن جبير: بُشِّر إبراهيم بإسحاق وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة.

.تفسير الآيات (40- 42):

{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ (42)}
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصّلاةِ} يعني: ممن يقيم الصلاة بأركانها ويحافظ عليها، {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} يعني: اجعل من ذريتي من يقيمون الصلاة.
{رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} أي: عملي وعبادتي، سمّى العبادة دعاءً، وجاء في الحديث: «الدعاء مخ العبادة».
وقيل: معناه: استجبْ دعائي.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} فإن قيل: كيف استغفر لوالديه وهما غيرُ مؤمنين؟ قيل: قد قيل إن أمه أسلمت.
وقيل: أراد إن أسلما وتابا.
وقيل: قال ذلك قبل أن يتبين له أمر أبيه، وقد بيّن الله تعالى عذر خليله صلى الله عليه وسلم في استغفاره لأبيه في سورة التوبة.
{وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أي: اغفر للمؤمنين كلهم، {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} أي: يبدو ويظهر. وقيل: أراد يوم يقوم الناس للحساب، فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهومًا.
قوله عز وجل: {ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقيقة الأمور، والآية لتسلية المظلوم وتهديد للظالم.
{إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ} أي: لا تغمض من هول ما ترى في ذلك اليوم، وقيل: ترتفع وتزول عن أماكنها.

.تفسير الآيات (43- 44):

{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)}
{مُهْطِعِينَ} قال قتادة: مسرعين.
قال سعيد بن جبير: الإهطاع النَّسَلان كعَدْوِ الذئب.
وقال مجاهد: مديمي النظر.
ومعنى الإهطاع: أنهم لا يلتفون يمينًا ولا شمالا ولا يعرفون مواطن أقدامهم.
{مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ} أي: رافعي رؤوسهم.
قال القتيبي: المُقْنِعُ: الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه.
وقال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء، لا ينظر أحدٌ إلى أحد.
{لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} أي: لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر، وهي شاخصة قد شغلهم ما بين أيديهم.
{وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} أي: خالية. قال قتادة: خرجت قلوبهم عن صدورهم، فصارت في حناجرهم، لا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها، فالأفئدة هواء لا شيء فيها، ومنه سمي ما بين السماء والأرض هواء لِخُلُوِّهِ.
وقيل:خالية لا تعي شيئا ولا تعقل من الخوف.
وقال الأخفش: جوفاء لا عقول لها، والعرب تسمي كل أجوف خاوٍ هواء.
وقال سعيد بن جبير: {وأفئدتهم هواء} أي: مترددة، تمور في أجوافهم، ليس لها مكان تستقرُّ فيه.
وحقيقة المعنى: أن القلوب زائلة عن أماكنها، والأبصار شاخصة من هول ذلك اليوم.
{وَأَنْذِرِ النَّاسَ} خوفهم، {يَوْمَ} أي: بيوم، {يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} وهو يوم القيامة، {فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} أشركوا، {رَبَّنَا أَخِّرْنَا} أمهلنا، {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} هذا سؤالهم الردّ إلى الدنيا، أي: ارجِعْنا إليها، {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} فيجابون: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ} حلفتم في دار الدنيا، {مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} عنها أي: لا تبعثون. وهو قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل- 38].